تُرِكَت الدولة المصرية وَحدها تُحارب باسم بقية الدول العربية لغاية إصابتها بالإرهاق، لدرجة لم يُعد أحد عمّا جرى لها يُصدِّق ويتحمَّل حجم ذاك الإغراق، الموجه قصداً كفيضان لاستئصال طليعة دورها الذي أدَّته دفاعاً عن الآخرين خارج حدودها بما جلبَ الحسرة والأسى والألم الناتج عن ضياع أماني العرب المُغيبة بلهيب الاحتراق، لتضيع الرُّؤى المصرية بين ازدحام البحث عن الرغيف المعجون بالعرق، وليته كافياً لسَدِّ الرَّمَق، لمثل السيل الهائل من بشر تاه أصحابه بين صرامة النصوص القانونية وعدم الأخذ بالمساواة عند التطبيق كأنّ الأمر تنافس بين محتويات الأطباق الموضوعة فوق موائد غذاء المحظوظين عن باطل وهم قِلَّة والأكثرية المصابة عن ظلم بعاهة الإمْلاق. طُرِحَت العديد من الأسئلة عن الأسباب حتى صَحْصَحَ الجواب مدوياً بالحقيقة المُمَثِّلَة الشرعية للحقّ، ومن ساعتها تراجعت أكبر دولة عربية عمّا تحمَّست له لمرحلة طويلة وتركت القومية لتصبح أحلام الأُمّة العربية تتبدد مع بزوغ النظرية الإسرائيلية القائمة على تفتيت كلّ ناشد لتجميع حتى حصاد القمح القادر على إخراج أي دولة عربية من المحيط إلى الخليج من سغب أساسه شح الدقيق في الأسواق، فلمّا فشلت مصر ونجحت إسرائيل ولنكن صرحاء ولو لمرة نُتقِنُ فيها اتِّباعَ الواقعِ المُفعَمِ بالمنطق ونحن نتحدث بمسؤولية عن صلب ما وقع في تلك المناطق، من دول عرب المشرق. في الوقت الذي انشغلت فيه المخابرات المصرية في خدمة نظام عازم بتصرّفاته على الانهيار، ما دامت تنمية الديار، تقتضي تقوية البنيات الفوقية مهما كان الثمن كقوّة رادعة (وليس الاكتفاء بالتحتية عن استثمارات متواضعة) لتوفير الوسيلة الوحيدة الضامنة النصر القائم بمقدَّراتِها الرهيبة على تخطيط معهود تنفيذه مرحلة بعد أُخرى بركائز علمية غير قابلة للتغيير ولا علاقة لها بذهاب نظام والإتيان بأخر، إذ هناك أُمور تحتاجها الدول في بناء هياكلها لا ارتباط لها بالسياسة كسياسة ولكن بما فرضه الوضع الحرج كالمفروض على إسرائيل في حربها مخابراتياً مع مصر، معتقدة أن تكسير شوكة هذا البلد العظيم معناه التمهيد لتكسير أشواك ما بقي من دول عربية مشرقية ودفعة واحدة، كأنّ المخابرات الإسرائيلية فهمت عن عمق ما قصد به شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته «مصر تتحدّث عن نفسها» وهو ينشد: أنا إن قَدَّر الإله مماتي .. لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي.
كنتُ معجباً بمصر فما تركتُ كتاباً يتحدّث عنها مهما كان التخصص إلّا وقرأته بإمعان ممّا رسخ في ذهني حلم زيارتها فتعانق عيناي تلك الأماكن الرائعة المجسمة لحضارة ضاربة في عمق الزمان ممّا جعلها مفخرة الإنسانية عبر ألآف السنين وبداية بداية التحضر وقبلة لها مكانة لدى عُشاق الجمال روحاً متحرّكة في إنسانة تربعت وسط ذاكرتي مذ كنت طالباً بآخر سنة في الثانوية العامّة (الباكلوريا المغربية) أو جسداً متجمداً في تمثال أبي الهول الحارس الافتراضي المخلص لأهرامات «خوفو» و«منقرع» و«منخرع»، بل جذبتني عوامل قوّة أذكت في حماسي كشاب يرغب أن تنظف مصر منطقة المشرق العربي من غطرسة المحتلين الاستعماريين الجاعلين شوكة إسرائيل تدمي أقدام الفلسطينيين ورثة الكرامة والعزّة والشرف والنخوة العربية، لكن الفتور ضرب عزيمة ذاك الحماس انطلاقاً من حرب الستة أيتم الجاعلة من موشي ديان بطل أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُهزم، كنت ساعتها في المملكة الهولندية وتحديداً في مدينة أطريخت مقيماً دارساً مشتغلاً، لأرى اليهود فيها وما أكثرهم قد ضاقت بهم أماكن معيِّنة، يمرحون ويرقصون ويردّدون كلاماً ما راقني سماعه عن مصر زعيمة العالم العربي، ممّا جعلني أغادر ذاك البلد مضحياً بمصالحي جميعها ومتضامناً مع الجريحة النازف دمها يوماً بعد يوم إلى تلك اللحظات التي اصطحبتني فيها السيِّدة «آمينا» لزيارة أُسرة يهودية مصرية تقطن مدينة «سَراَنْدِي SARANDE» جنوب ألبانيا، لها ما لها مع المخابرات المصرية التي كانت طرفاً لا يُستهان به ليصبح مصير ذاك البلد العظيم في قبضة مَن فتحَ الباب ليلج التآمر الإسرائيلي يلتهم ما بقى من أمل خيطاً رفيعاً ممسُكة به العروبة وما احتضنته من شعارات سادت سياسياً، ثمّ بادت مهما كان المجال، لأجل غير مُسمّى. ولما سألتُ آمينا عن الدافع الذي جعلها تحوّل اهتمامي لمعرفة ألبانيا في مساحتها الجنوبية حيث أقامت الطبيعة ما تريح به أعصاب الأدميين وتملأ صدورهم بهواء عليل ذي النكهة الخاصّة المتغلبة على الرطوبة برحيق عطر تجمّعت فيه روائح كلّ أصناف النباتات المنتشرة ما وصل حدّ الإبصار لدى بصر المتمعن في مثل المنظر الباعث في النفس حبّ البقاء بين أحضانه لمتم العمر، والإتيان بي لمنزل لا علاقة لي بأصحابه لأصغى ما تفوه به سيِّدة كلّما نطقت ببضع جمل عوضتهم بنحيب غريب كأنّ المخابرات المصرية حفرت في كيانها ما أدام عليها الحزن وعرضها لنوبات غضب شديد لن يستطيع الزمن إبعادها عن الرغبة في الانتقام، أجابتني قائلة:
- لتشرب عزيزي مصطفى من معين الحقيقة، وتراجع مستقبلاً كلّ كلمة تنشرها في حقّ مصر حبّك الكبير المصاب لا محالة بما سمعته وما ستسمعه من غرائب بطلتها المخابرات المصرية.
- مهما كان أو سيكون، سيظل حبّي الكبير لمصر الكنانة وشعبها العظيم غير متأثر بحماقات أعمال فردية اعتقد أصحابها أنّهم في منأى عن تقديم الحساب حالماً يتبرأ منهم من نفذوا تعليماته في النصف الأوّل منها أمّا الثاني أضافوه لنفوذ استغلوا مقامه لإشباع نزواتهم الشيطانية ورغبتهم لامتصاص دم المغلوبين على أمرهم، وقضاء ملذات غرائزهم الحيوانية. الشيء الصعب عليك يا أمينا أن تقرين بقلب سليم، على الأقل في هذه المرحلة وأنت مكلفة بمعرفة ما أفكر فيه تجاه إسرائيل وهي تتقدّم خطوة خطوة لإشعالها ناراً تُحرق المشرق العربي بما فيه الدول الحليفة لها، بعود ثقاب منفرد في يد غيرها المسيِّر حسب هواها، أن تقرين أنّ نهاية إسرائيل ستكون في الأوّل والأخير على يد الفلسطينيين، ما تقوم به إسرائيل الآن، مهما طال الزمان، سيكون مصيره الفشل، ولنبدأ من أوّل السطر، إسرائيل استغلت تفكير حكّام مصر في إنقاذ أنفُسهم بعد الهزائم المتتالية المتلاحقة عليهم وبسببهم، فأغرقت البلد بعملاء مزوّدين بتعليمات التغلغل في أوساط هؤلاء الحكام بما يكونون به قوّة ثالثة منهم، تصبُّ في إعداد قيادة موالية لإسرائيل، تأتمر بأمرها ولو استغرقت العملية عقدين أو ثلاث من السنين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق